الاعتراف بفلسطين- تحول بريطاني مشروط في ظل ضغوط متزايدة وآمال معلقة

المؤلف: د. عدنان سيف08.20.2025
الاعتراف بفلسطين- تحول بريطاني مشروط في ظل ضغوط متزايدة وآمال معلقة

في الرابع والعشرين من شهر يوليو/ تموز المنصرم، وعلى إثر حوار عاجل مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس بشأن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، صرح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأن هذه الخطوة يجب أن تكون جزءا من "خطة شاملة تقود في نهاية المطاف إلى حل قائم على أساس دولتين".

واليوم، يتبادر إلى ذهن الجميع تساؤل ملح: ما الذي حدث بعد خمسة أيام فقط، وبالتحديد يوم الثلاثاء الموافق 29 يوليو/ تموز 2025، ليخرج كير ستارمر بشكل مفاجئ من مقر رئاسة الوزراء في داونينغ ستريت، وذلك بعد اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء استمر لمدة ساعة ونصف، ليلقي خطابا متلفزا على الشعب البريطاني والعالم أجمع، معلنا فيه عن عزم حكومته الاعتراف بدولة فلسطين بحلول موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول المقبل.

وقد اعتبر العديد من المحللين السياسيين، وعلى رأسهم الصحفي المرموق في صحيفة "آي"، إيان دنت، أن كلمة رئيس الوزراء كانت "تاريخية ومبدئية، إلا أن جسامة الوضع الراهن تتطلب بذل المزيد من الجهود".

لقد احتوى البيان على العديد من الشروط والتحذيرات لإسرائيل وحركة حماس على حد سواء، حيث أشار إلى أن الاعتراف سيتم بشرط أن تتخذ إسرائيل "إجراءات ملموسة للتخفيف من وطأة المعاناة في قطاع غزة والموافقة على وقف إطلاق النار، والالتزام بتحقيق سلام دائم"- مما يعني أنه في حال امتثال إسرائيل لهذه الشروط، فلن يتم الاعتراف بدولة فلسطين! وفي الوقت ذاته، أكد على ضرورة أن تقوم حركة المقاومة الإسلامية حماس "بإطلاق سراح جميع الرهائن، والانسحاب من أية ترتيبات مستقبلية لحكم القطاع".

ولتفسير التغيير المفاجئ الذي طرأ على موقفه خلال تلك الأيام الخمسة، أوضح أن الدافع الرئيس وراء توقيت صدور البيان والموقف الجديد للحكومة البريطانية يتمثل في القناعة المتزايدة لديه بأن "فرص تحقيق (خطة شاملة تقود في نهاية المطاف إلى حل قائم على أساس دولتين) أصبحت شبه معدومة".

تفاوتت ردود الأفعال بين معارض للبيان، ومرحب به، فضلا عن وجود شريحة لا يستهان بها من المشككين في النوايا. فقد جاء الرد الإسرائيلي على لسان رئيس الوزراء، وتبعه الموقف الأميركي على لسان وزير الخارجية، إلى جانب مواقف العديد من التكتلات والمنابر الصحفية الموالية للموقف الإسرائيلي، مثل صحيفة ديلي تلغراف، التي نقلت تصريح نتنياهو بأن "ستارمر يكافئ حماس في فلسطين"، وسارت على نهجها صحيفتا التايمز وديلي ميل.

وفي سياق هذه الحملة، وجه 40 عضوا في مجلس اللوردات تحذيرا للمدعي العام البريطاني بأن الاعتراف بدولة فلسطين يتعارض مع القانون الدولي، كما عقد مجلس الممثلين اليهودي البريطاني اجتماعا استثنائيا، سيليه لقاء مع الحكومة لمناقشة موقفها.

وفي المقابل، كان هناك العديد من المؤيدين للقضية الفلسطينية الذين رحبوا بالقرار، وانتقدوا في الوقت ذاته الشروط التي وضعها ستارمر، كما أشار إلى ذلك إيان دنت.

ويطالب أصحاب هذا الرأي بضرورة أن يتبنى ستارمر موقفا أكثر صرامة يشمل حظرا شاملا لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، بالإضافة إلى تعليق اتفاقية الشراكة التجارية بين البلدين، والضغط على الدول الأوروبية لتبني الموقف نفسه.

ومما لا شك فيه أن رئيس حزب العمال يتعرض لضغوط متزايدة من داخل الحزب والحكومة، حيث وقع ما يزيد على 220 عضوا برلمانيا- يمثلون تسعة أحزاب، نصفهم ينتمي لحزب العمال، بحسب ما أوردته البي بي سي- على رسالة تدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين.

كما أن هناك العديد من أعضاء الحكومة ذوي الثقل ممن يدعمون هذا التوجه، بمن فيهم أنجيلا راينر نائبة رئيس الحزب، وإيفيت كوبر وزيرة الداخلية، وإد ميليباند وزير البيئة والرئيس السابق للحزب، وليزا ناندي وزيرة الثقافة والإعلام والرياضة، وويز ستريتينغ وزير الصحة.

وتظهر استطلاعات الرأي باستمرار، مثل استطلاع مؤسسة يوغوف الصادر في 18 يونيو/ حزيران 2025، ارتفاع نسبة المطالبين من البريطانيين بوقف فوري لإطلاق النار، وفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وتطبيق قرار محكمة العدل الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، والاعتراف بدولة فلسطين.

ويتزايد هذا الضغط مع تصاعد حدة المعارضة داخل الحزب لبعض السياسات الداخلية، مثل السياسة الأخيرة المتعلقة بخفض نسبة الدعم المقدمة للفئات المستحقة، والتي صوت ضدها 47 من نواب الحزب، هذا فضلا عن تعثر العديد من السياسات في تحقيق أهدافها المرجوة، مثل السياسة الخاصة بتخفيض عدد المهاجرين إلى بريطانيا.

لهذا السبب، اعتبر البعض أن بيان رئيس الوزراء البريطاني ستارمر هو محاولة لاحتواء الغضب المتزايد لدى قطاعات واسعة من المنتمين لحزب العمال، حيث إن أغلب المعارضين لبعض السياسات الداخلية، كتلك المذكورة، هم أنفسهم من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية.

بيد أن رئيسة لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، إميلي ثورنبري، دافعت بقوة عن الموقف الجديد للحكومة في مقابلة مع بودكاست "نيوز إيجنت" بُثت في اليوم التالي لخطاب ستارمر، وأكدت أن الاعتراف بدولة فلسطين سيتم في موعده المحدد، وذلك لأن إسرائيل من غير المتوقع أن تولي أية أهمية للشروط التي طرحها ستارمر.

وترى ثورنبري أيضا أن هناك تحركا تقوده كل من المملكة العربية السعودية، وفرنسا، وبريطانيا لكسر الجمود في عملية السلام القائمة على حل الدولتين، وبالتالي فإن موقف الحكومة البريطانية يندرج في هذا الإطار.

ربما يكون من المناسب في هذه اللحظات استحضار الدور البريطاني والمواقف التاريخية لبريطانيا من القضية الفلسطينية، والتي لم تكن منزهة أو عادلة، خاصة خلال الحقبة الاستعمارية، بل كانت الأساس الذي قامت عليه الكارثة التي تتفاقم يوما بعد يوم.

من المعروف عن رئيس الوزراء البريطاني في فترة الحرب العالمية الأولى، لويد جورج، أنه كان يتابع عن كثب الحملة التي قادها القائد العسكري البريطاني اللورد ألنبي على فلسطين واحتلاله للقدس في 11 ديسمبر/كانون الأول 1917، والتي اعتبرها هدية "عيد الميلاد" للشعب البريطاني في ذلك العام.

وقد صرح لاحقا في خطاب ألقاه عام 1920: "عندما كنت صغيرا، نشأت في مدرسة تعلمت فيها عن تاريخ اليهود أكثر بكثير مما تعلمت عن تاريخ بلادي… كانت فلسطين أرض الكتاب المقدس، وأرض مدرسة الأحد التي كنت أرتادها".

بهذه العقلية تعاملت بريطانيا وما زالت تتعامل مع فلسطين، منذ الحرب الصليبية الثالثة التي قادها الملك ريتشارد قلب الأسد، ملك بريطانيا آنذاك.

ولا يسعنا أن ننسى في العصر الحديث أن السيد توني بلير- رئيس وزراء بريطانيا في الفترة من 1997 إلى 2007- قد تولى بعد انتهاء ولايته منصب ممثل الرباعية الدولية المعنية بفلسطين- أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا- ولم يحقق أي تقدم في بناء السلام في المنطقة خلال السنوات الثماني التي قضاها في هذا المنصب، بل أدى إلى تعقيد الوضع.

وقد اتهمه البعض، مثل الصحفي المعروف بيتر أوبورن في مقاله المنشور في صحيفة ديلي تلغراف بتاريخ 12 ديسمبر/ كانون الأول 2012، بأنه "يرى أن مصالح بريطانيا وإسرائيل متطابقة، ويرفض حتى الدعوة إلى وقف إطلاق النار…".

وتجدر الإشارة هنا إلى كلمة وزير الخارجية البريطاني الحالي، ديفيد لامي، التي ألقاها عقب تصريح كير ستارمر، وذلك في المؤتمر الدولي الرفيع المستوى الذي عقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، في الفترة الممتدة من 28 إلى 30 يوليو/ تموز 2025، والذي كان يهدف إلى إحراز تقدم ملموس نحو تحقيق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وقد لاقت كلمته ترحيبا حارا وتصفيقا مدويا من قبل الحاضرين، بمن فيهم وزراء خارجية العديد من الدول العربية وممثل عن السلطة الفلسطينية، عندما أعلن عن نية الحكومة البريطانية الاعتراف بدولة فلسطينية.

وفي خطابه، أشار ديفيد لامي إلى أن آرثر بلفور- الذي سبقه في منصب وزير الخارجية- كان قد قام عام 1917 بتوقيع رسالة تعهد فيها بأن "ينظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". ومع ذلك، أكد على أن وعد بلفور كان مصحوبا بتعهد رسمي بأنه «لن يُفعل شيء من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للشعب الفلسطيني أيضا».

وأضاف لامي قائلا: "لم يتم الوفاء بهذا التعهد، وهذه مأساة تاريخية لا تزال تتكشف فصولها حتى يومنا هذا".

لا شك أن هذه المراجعات والاعترافات التي أدلى بها رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة العمال الحالية تحمل أهمية كبيرة، على الرغم من أن البعض قد يرى أنها مجرد مناورات لكسب الوقت، خاصة إذا لم تغير الولايات المتحدة موقفها القائم على الدعم المطلق لإسرائيل.

كما ذكرت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية، إميلي ثورنبري، في المقابلة التي أجريت معها، أنها خلال زيارتها الأخيرة إلى الولايات المتحدة، واجتماعها مع العديد من أعضاء الكونغرس، لم تجد أحدا مستعدا حتى لمجرد مناقشة الوضع المأساوي في قطاع غزة.

وعلاوة على ذلك، جاء رد فعل وزير الخارجية الأميركي على مؤتمر الأمم المتحدة الأخير- الذي ألقى فيه وزير الخارجية البريطاني كلمته- ليتمثل في قراره بمنع ممثلي السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية من دخول الأراضي الأميركية مستقبلا، وذلك وفقا لتقرير نشرته وكالة رويترز في 31 يوليو/ تموز 2025.

يتفق أغلب المحللين على أن القرار البريطاني بمفرده لن يحدث تغييرا جوهريا في الواقع الراهن. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل المآسي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، وخاصة المأساة الحالية التي وصفتها العديد من المنظمات الدولية- مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة "بتسيلم" الإسرائيلية- بأنها "تطهير عرقي" و"جرائم ضد الإنسانية".

على الرغم من هذا كله، فإن قرار كل من بريطانيا وفرنسا بالاعتراف بدولة فلسطين يمثل دفعة قوية للزخم المتزايد الذي تحظى به هذه القضية، والذي يجسده اعتراف أكثر من 150 دولة عضوا في الأمم المتحدة بدولة فلسطين، ولعل ذلك يمنح الإدارة الأميركية- وخاصة الإدارة الحالية بقيادة ترامب المعروف بآرائه الثورية المفاجئة، والذي اجتمع معه ستارمر قبل يوم واحد من إعلان الموقف الجديد- فرصة لرفع الراية الحمراء، أو على الأقل الراية الصفراء، في وجه الحكومة الإسرائيلية الحالية التي ترتكب أفدح الجرائم بحق شعب يستحق أن يعيش على أرضه بكرامة وعزة كسائر شعوب العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة